الكرم صفة من صفات العربي الطيبة، وسجية من سجاياه الكريمة التي يتمسك بها ولا يحيد عنها مهما كان الثمن، فهي تجري في عروقه شهامة وإباء وعزة للنفس وإغاثة للملهوف.. والكرم صفة تطلق على كل ما يحمد من أنواع الخير والجود والعطاء والإنفاق، وقد تجسدت هذه المعاني السامية في شخصية رمز الكرم العربي حاتم الطائي
كان لحاتم الطائي صيت وشهرة، وقد أحبه العرب على مدى قرون طويلة، ورفعوه إلى مستوى الأسطورة، فغدا رمزاً للكرم في الوجدان الشعبي العربي، فيقال: “أكرم من حاتم”. وما ساعد في رسوخ أسطورة حاتم أنه شخصية واقعية، نسب لها الكرم المادي، والكرم المعنوي. فهو جواد سخي معطاء مادي، وأخلاقياً لا يتسبب بضرر، ويجير اللاجئ، ويغض البصر عن جيرانه، ويحفظ حقوق القربى، إلى آخر سلسلة هذه الصفات التي وضعها العرب في أعلى سلم القيم، والتي حفظتها لنا أشعاره. ومن الطريف أنه كان من أجمل شباب العرب في الجاهلية حسب وصفه، وبذلك يكون الجمال الروحي قد اكتمل بالجمال المادي البصري، لكأن أحدهما يفترض الآخر ويتممه.
حاتم الطائي من اجود العرب
كثُرت القصص التي تداولها المؤرخون في كُتُبهم عن حاتم الطائي، وما كان يفعله مع الناس من كرم وجود، ولعلّ من أفضل تلك القصص التي ذكرت: قصة سنة القحط والصبية، فيحكى أن أخا امرأة حاتم الطائي، وقال لها: حدثيني عن أكثر موقف من مواقف الجود التي فعلها حاتم، فقالت له: أكثر تلك المواقف التي فعلها هو أنه كان في سنة جادبة، وسنة قحط، ليس عندهم فيها ما يكفيهم ولا يكفي صبيانه.
وكان أطفالهم لا ينامون إلا بالتعلل، اي بعد أن ينتظر معهم، ويسامرهم؛ فينامون، وقالت: إنه جاء إليّ؛ حتى يتعللني، فأشفقت عليه، وأوهمته أني نمت، فجاءت امرأة، وقالت له يا حاتم، إن عندي أولاد يتضورون من الجوع، فقال لها: اذهبي، وأتني بهم، ولأجعلنهم يأكلون، فردّت عليه امرأته، وقالت له: كيف ستجعلهم يأكلون، وأولادك ناموا دون طعام، فأتت المرأة؛ فعمد الطائي على فرسه؛ فذبحه، وأكلوا جميعا، وأكل أناس كثير، ولم يبق سوى حاتم، وهو أشد الناس جوعًا وقتئذ.
الكرم في الجاهلية
الكرم من الأخلاق العريقة التي ألفها منذ الأزل أصحاب النفوس العظيمة، فأكبدوها في تعاملاتهم ومدحوا بها ساداتهم، وجعلوها دليل الرفعة والفخار، وغاية المجد لما فيها من الإيثار وعلو الهمم والأقدار، وكانت عندهم نقيض اللؤم والشنار، وفي فقدها كل مذمة وعار، فالكرم عادة السادات وشيمة الأحرار، وعادة السادات سادات العادات، وشيمة الأحرار أحرار الشيم. قال أحد الحكماء: أصل المحاسن كلها «الكرم» وأصل الكرم نزاهة النفس عن الحرام، وسخاؤها بما تملك على الخاص والعام، وجميع خصال الخير من فروعه.
لقد أحب العرب الكرم، واتخذوا له رموزاً وإشارات، فكانت تسمى الكلب داعي الضمير ومتمم النعم ومشيد الذكر لما يجلب من الأضياف بنباحه، وكانوا إذا اشتد البرد وهبت الرياح لم تشب النيران فرقوا الكلاب حوالي الحي وربطوها إلى العتمة لتستوحش فتنبح فتهدى الضلال وتأتى الأضياف على نباحها.
اسباب الكرم العربي
أولاً: طبيعة الحياة الجغرافية: فلقد كانت البيئة العربية صحراء قاحلة، وكان سكانها من البدو في ترحال مستمر، فراراً من الجدب وبحثاً عن موارد المياه والكلأ. تلك البيئة جعلت العربي يدرك قيمة قرى الضيف وإعانة المحتاج ونصرة المظلوم وغيرها من القيم النبيلة، فكان يتشبث بهذه القيم حتى تعم وتنتشر ويعود إليه في النهاية خيرها ويشمله أثرها.
ثانياً: طبيعة الحياة الاجتماعية: حيث انتشرت في البيئة العربية صفة حب الفخر والتباهي بخصال الكرم والسخاء، وفعل الآباء والأجداد، فأحب العربي أن يرتبط ذكره بما أحبه الناس من تلك الخلال، وكان الكرم أكثرها تأثيراً في النفوس. كما كان للحرب والنزاعات المستمرة بين القبائل دوراً في انتشار الكرم وحرص العرب عليه، حيث كان من آثار الحروب انتشار الفقر والبؤس في البلاد، فقل الغذاء وعز الطعام، فأحسوا بالجوع ينبش أنيابه بين أحشائهم، ويكاد يفتك بهم، وبخاصة إذا كانوا مسافرين أو عابري سبيل، فقدروا معنى الإنسانية الحقيقية، بتقديم ما يحفظ على الإنسان حياته أو يسد رمقه أو يروى غلته، ولذلك عظموا الكرم وإطعام الطعام، ووصفوا بالكرم عظماء القوم، وكان الكرم في مقدمه الفضائل التي يحب العربي أن يتحلى بها.
الكرم في الإسلام
- قال تعالى: – {وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[آل عمران:133-134]
- – {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ}[فاطر:67]
- – {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [آل عمران:92]
- – {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}[البقرة:261]
- – {وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ}[البقرة: 272]
- – {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى، وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}[الليل:5-10]
الاحاديث النبوية عن الكرم
- فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إنّ اللَّهَ تَعَالَى جَوَادٌ يحِبُّ الجُودَ ويحِبُّ معَالِيَ الأَخْلاقِ ويَكْرَهُ سَفْسافَها» (رواه الترمذي).
- وعن أبى هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقاً خلفا ويقول الآخر اللهم أعط ممسكاً تلفاً» (رواه البخاري).
- وعن أبى ذر -رضي الله عنه- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ما من مسلم ينفق من كل مال له زوجين في سبيل الله إلا استقبلته حجبة الجنة كلهم يدعوه إلى ما عنده» (رواه أحمد).
- وعن على -رضي الله عنه- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن في الجنة غرفاً يرى بطونها من ظهورها وظهورها من بطونها» فقال أعرابي: لمن هي يا رسول الله؟ قال: «هي لمن طيب الكلام، وأطعم الطعام، وأفشى السلام، وصلى بالليل والناس نيام» (رواه الترمذي).
- وعن أبى هريرة -رضي الله عنه- قال رجل للنبي -صلى الله عليه وسلم-: يا رسول الله، أي الصدقة أفضل؟ قال: «أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان» (رواه مسلم).
- «لا يجتمع شح وإيمان في قلب عبد أبداً» (صحيح الجامع).
- «شر ما في رجل شح هالع وجبن خالع» (رواه أبو داود)؛ وفي حديث آخر: «اتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم» (رواه مسلم).
كرماء العرب في الجاهلية
أكرم العرب في الجاهلية ثلاثة : حاتم الطائي وهرم بن سنان وكعب الايادي.
حاتم الطائي هو حاتم بن عبدالله بن سعد بن آل فاضل بن امرؤ القيس بن عدي بن أخزم بن ابي أخزم هزومة بن ربيعة بن جرول بن ثعل بن عمرو بن الغوث بن طيئ، يُلقب بأبي عدي و أبي سمانة، كما يعتبر من أشهر شعراء العصر الجاهلي المعروفين بالجود والكرم.
هَرِمُ بن سِنَان المري كان رئيس قومه في الجاهلية، وعُدَّ واحداً من أجواد العرب؛ علماً أن قصته مع الشاعر المشهور زهير بن أبي سُلْمى مشهورة بين الناس في عصره وإلى يوم الناس هذا. فقد آلى على نفسه أنه لا يُسَلِّم عليه زهير إلا أعطاه: عبداً أو أمة أو فرساً أو بعيراً؛ فاستحيا زهير مما كان يقبل منه، فجعل يمرُّ بالجماعة فيهم هَرم فيقول: عِمُوا صباحاً غير هرم، وخيركم استثنيت.
كعْب بن مامة الإيادي الذي ذهب قوله مثلًأ في الإيثار والتضحية، هو أبو دؤاد كعب بن مامة بن عمرو بن ثعلبة الإيادي، نسبة إلى قبيلة إياد، وقيل: “مامة” اسم أبيه واسم جده عمرو، وقيل: مامة اسم أمه، واسم أبيه عمرو، وكعب سيد جاهليٌ كريم جواد، ضربت العرب به المثل في الجود، وضربوا به المثل في حسن الجوار، فقالوا: «أجود من كعب بن مامة» و«جار كجار أبي دؤاد»، وكعب بن مامة هو صاحب القصة المشهورة في الإيثار: “اسق أخاك النمري”، حيث جاد بنفسه وآثر رفيقه بالماء حتى هلك عطشًا.
الكرم والجود
الجود: صفة تحمل صاحبَها على بذل ما يَنبغي من الخير لغير عِوَض ولا غرض.
والكرم: إنفاق المال الكثير بسهولة من النَّفس في الأمور الجليلة القدر، الكثيرةِ النَّفع.
فالكريم من أسماء الله الحسني، والجود والكرم من صفاته، قال سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ﴾ [الانفطار: 6 – 8].